القات والاقتصاد اليمني.. مأساة تجرُّ بلداً فقيراً نحو مزيد من الفقر
الخميس - 30 يناير 2025 - 08:29 م
صوت العاصمة | مدعي حاج بن عقيد المهري
في عام 1973م أعلنت منظمة الصحة العالمية أن القات هو نوع من أنواع المواد المخدرة التي تؤدي إلى الإدمان، ومن أعراضها الهلوسة وتسوس الأسنان.
ولا يخفى على أحد ما للقات من أضرار وآثار، وكوارث لا يغطيها أي ستار، وأنها إحدى أكبر مشاكل الشعب اليمني الذي يقف اليوم في ذيل الأمم في مختلف المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ويجد نفسه بين أفقر شعوب العالم وأكثرها تراجعاً، شعب بالكاد يجد ما يبقيه على قيد الحياة، أكثر من نصف سكانه مهددون بالمجاعة، وبناءً على بيانات لوزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية فإن نسبة الفقر في اليمن وصلت إلى 80 %، شعب يخرج أحد البسطاء فيه ليُسال عن أحلامه في العام القادم فيقول: أتمنى أن تقوم القيامة، لأنه لم يبقَ من المتاعب شيئاً إلا وعشناها.. وإن كان قد قالها من باب الدعابة في مقطع تمثيلي كوميدي إلا أنها عبارة تلخص مشاعر الكثير من أبناء هذا البلد.
القات هو مشتّت الأسر، ومعطّل الشباب، ومدمّر البلد، آثاره الاجتماعية يعرفها المقوتون قبل غيرهم، ويفهمها المدمنون عليها أكثر من فهمهم لكيفية مضغها.. جرائم قتل بدأت بجلسة قات، شباب أدمنوا الحبوب، والخمور، والمخدرات بدأوا بمضغ هذه الشجرة، كوادر وكفاءات كان ينتظر منها الكثير في إصلاح الأوضاع، وتعديل الأمور فسقطوا في مستنقع القات قبل أن يصلوا إلى أماكن صنع القرار، أطفال عرفوا القات قبل الصلاة، ورجال تركوا الصلاة بعد أن عرفوا القات، أرباب أسر يتركون أبناءهم في البيوت جياعاً، ويمضغون القات هزلاً وصياعاً، كم من شاب كان ينظر إليه والده بأنه مصدر فخره، ونجاته، وخروجه من براثن الفقر وقيود المعاناة فأدمن القات، وأصبح هو أكبر معاناة بالنسبة لوالديه.
لن أطيل كثيراً في هذه العبارات الرنانة، والتعابير اللغوية، وسرد المعاناة بطريقة جوفاء لا معلومة فيها ولا حقائق؛ فأنا اليوم أريد أن أخبرك عزيزي القارئ عن تأثير القات على الاقتصاد اليمني، وكيف أنه ليس مجرد مشكلة آنية تقصم ظهر هذا الاقتصاد بل يتجاوز ذلك ليكون معضلة مستقبلية تقف في وجه التنمية والازدهار؛ فهو أكبر مصادر التهديد التي تجعل اليمن يقبع في ما هو فيه إلى أجل غير معلوم، ولأن الموضوع من جانب اقتصادي فإننا في عالم الاقتصاد لا يهمنا الإثراء الأدبي بقدر ما تهمنا الحقائق والأرقام، الرقم الذي يأتي من مصدر موثوق ليعكس الحالة الاقتصادية هو عندنا بكتاب كامل لا يحتوي إلا على الكلمات والجمل، العواطف والمشاعر والأحاسيس لا وجود لها في قواميسنا؛ لأنها لا تُقاس بنسبة ولا يمكن التعبير عنها في رقم.. وإن استخدمنا كلمات جميلة، وسجع، وتضاد، ومرادفات، ولغة قوية فغرضنا هو أن يصل إليك الرقم بشكل واضح وقوي فاللغة بين أيدينا أداة تحليل، وليست غاية بحد ذاتها.
وبلغة الأرقام دعني أخبرك عزيزي حجم تأثير القات على اقتصاد دولة لم يعد لها من الدولة إلا اسمها.
القات ومدمنوها.. نسبٌ هائلة
تقارير عن الأمم المتحدة في عام 2020م توصلت إلى أن 90 % من اليمنيين يمضغون القات ما بين ثلاث إلى أربع ساعات، بينما توصلت مؤخراً دراسات شبه رسمية إلى أن 70 % من اليمنيين مدمنون على القات.. هذا يعني أنه ما يقارب ثلاثة أرباع الشعب اليمني معتادون على مضغ هذه الشجرة الخبيثة، كيف لهؤلاء أن يبنوا وطناً؟ وأسوأ من ذلك أن القات تنتشر كثيراً بين الساسة، والقادة، وكبار الجهاز البيروقراطي في الدولة.. من لم يسيطر على هواه فيمنع نفسه من مضغ القات، كيف له أن يسيطر على جهاز إداري متكامل الهفوة فيه تسقط دولة، تتعب شعباً، وتنهي حياة، كيف له أن يبني مؤسسات، وأن يدافع عن الحقوق، وأن يقوم بتوعية من حوله(فاقد الشيء لا يعطيه) كيف له أن يرفع من شأن هذا البلد، ويحقق طموحات أبنائه؟
القات والزراعة.. غزو وسطو
في عام 2023م أعلن البنك الدولي أن المساحة المخصصة لزراعة القات في اليمن بين عامي 2016 و2022 زادت بنسبة 40 % هذه نسبة كبيرة تهدد بقية الزراعات، وتجعل القات يتصدر المشهد الزراعي على حساب مشاريع زراعية أخرى قد تجعل اليمن يأكل مما يزرع، هذا مع العلم أننا نتحدث عن بلد يستورد 90 % من المواد الغذائية.. عجباً لعقول تستورد كل ما يسد رمق جوعها، وهي تزرع ما يسد أوقات فراغها ولهوها، أو بالأحرى أوقات ضياعها.
القات والمال.. تبذير
في 16 يونيو من عام 2016م نشر كامل المطري مقالاً استشهد فيه بأن منظمة العمل الدولية أوضحت في تقرير لها أن الشعب اليمني ينفق 1.6 مليار دولار على القات سنوياً.. 1.6 مليار دولار تبني أوطان، وأمم، وشعوب، وبلدان، ونما، وتطور، وتقدم، وحياة، تنقذ دولة، وتجعل من الميزانية التي تعاني من العجز تصبح ذات فائض كبير.. فعلاً إنها مهزلة.
القات وساعات العمل.. إهدار
بحسب دراسة رسمية أجرتها الحكومة اليمنية كما ورد في تقرير لقناة العربية فإن اليمنيين يهدرون 20,000,000 (عشرين مليون) ساعة عمل يومياً على القات، نضربها في 30 يوماً في 12 شهراً ستكون النتيجة 7,200,000,000 (سبعة مليارات ومائتين مليون) ساعة عمل.. بلد نسبة الفقر فيه 80 % ويهدر 1.6 مليار دولار وما يزيد عن سبعة مليار ساعة عمل سنوياً.. بربك هل
قرأتَ عن مهزلة تشبه هذه؟.
القات والمياه.. مستقبل جاف
وزارة الزراعة اليمنية نشرت أن القات يستهلك 70 % من المياه الجوفية في اليمن، ولكي تكون في الصورة أكثر أخي القارئ، وتعي ما معنى أن تستهلك القات هذه النسبة من المياه الجوفية فإن الإدارة العامة للغابات والتصحر في وزارة الزراعة اليمنية قد أشارت في عام 2014م إلى أن نسبة التصحر في اليمن تبلغ 90 % وأنها قابلة للزيادة بسبب القات.. في الوقت الذي أصبح فيه الماء أحد أكبر أسباب التطور، والتنمية المستدامة، والذي تحارب من أجله البلدان، بل أصبح من ضمن ملفات الاستفزاز، وأداة من أدوات الضغط الاقتصادي بين العديد من الدول؛ فإن بلداً في قاع بلدان العالم من الناحية الاقتصادية مثل اليمن يهدر مياهه لأجل مضغ شجرة تشبه أعلاف الحيوانات، وأكلات الضأن والماعز.
وإن كانت الأرقام السابقة من مصادر رسمية إلا أنها تبقى أرقام تقديرية، وتقريبية؛ لأن بلدان الصراعات، والحروب في الغالب لا تكون فيها الأرقام دقيقة ولكن أنا وأنت يا صديقي نعلم أنه إذا لم تكن هذه الأرقام دقيقة؛ فإن الأرقام الدقيقة لن تكون أحسن حال من هذه.
القات مهلكة.. كيف النجاة؟
لقد أصبحت القات متجذرة في هذا الشعب، ولم تعد مواجهتها بالأمر الهيّن، ولا بأن نصدر قراراً في ليلة وضحاها نكتب فيه "منع القات بتاتاً" كما فعل البحسني ذات يوم وفشل، بل أن هذا المنع بحاجة إلى الكثير من التأني، والتخطيط، والتدرج ولنا من كتاب الله دليل؛ فلقد مُنع الخمر في بداية الإسلام على خطوات بدءاً من قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى" إلى قوله عز وجل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، فالقات يجب أن يمنع على خطوات تبدأ بمنعه في أوقات محددة وأيام معلومة؛ خلال تلك الأيام يكون مضغ القات جريمة، وفي غيرها يُتاح مضغ القات وكأنها شيء عادي؛ حتى يدرك المدمن أنه بإمكانه التوقف عن هذه الشجرة الخبيثة والدليل أنه صمد في أيام المنع، ويدرك حقاً أنه كان يوهم نفسه وحسب بأنه غير قادر.
يجب أن تُمنع القات على الشخصيات السياسية، والقادة، والمدراء بدرجة أولى واشتراط تعيينهم بأن يكونوا من غير المدمنين على القات وإن صلح الرأس صلح سائر الجسد، ولكي يدرك عامة الشعب أن الدولة عازمة على محاربة هذه الآفة، وأنها لن تتهاون أبداً في العبث بقراراتها؛ فعليها أن تقوم بتقديم الرؤوس الكبيرة إلى العدالة فور مخالفتها لقوانين حظر القات.
أن يكون وجود "ثبت صحياً بأنه لا يمضغ القات" في السيرة الذاتية للمتقدم على العمل في مؤسسات الدولة أشبه بشهادة توصية من رئيس الجمهورية.
أن يتم نشر الوعي في أوساط الشعب، وتعليق اللافتات في كل مكان وحي، وشارع تحذر من داء القات، وأن تخصص برامج تلفزيونية للتوعية بأضرار القات، وأن يتم الحث على إصدار مؤلفات في التخلص من هذه المشكلة، هذه المؤلفات تُترجم في شكل حصص دراسية كاملة في المدارس ومحاضرات في الجامعات تبين للجيل القادم كيف أن هذه الشجرة تقتل أحلام هذا البلد وأبنائه، وأيضاً أن تلزم وزارة الأوقاف خطباء المساجد بتوحيد خطبة واحدة كل شهر تكون عن القات لمدة سنتين، ثم تكون خطبة كل شهرين لمدة سنتين ثم تكون خطبة كل ثلاثة أشهر لمدة سنتين، ثم نعود مجدداً لتكون خطبة كل شهر وهكذا حتى نشعر بأن هذه الخطب قد لاقت صداها، فهذا التصوير للتوعية ضد القات بأنها حرب ضد الشر حتى وإن لم تقلص من عدد المدمنين إلا أنها ستحول دون زيادة الداخلين في هذا النفق المظلم.
أن نصل في النهاية وترجمةً لكل ما سبق إلى إصدار قانون يحظر القات نهائياً، وهذا يتطلب عدم قبول أي عضو في مجلس النواب من المدمنين على القات؛ حتى لا يتم تعطيل هذا القانون كما تم تعطيل مشروع القانون الذي يمنع زراعة القات في عام 2007م.
والأهم من كل ذلك أن نؤمن جميعاً وفي مقدمتنا صانعو القرار أنَّ القات مشكلة صعبة، وحلها معقد، ولكن ليس مستحيلاً، وأنها متى وجدت الإرادة ولم يتم الخضوع لهذا الواقع المؤسف؛ فإننا سنرى يمناً بلا قات، أو على الأقل سنرى يمناً يستحي المرء ويخشى فيه من أن يمضغ القات على الملأ.
اليمن أمام خيارين.. إما يمن بلا قات وباقتصاد عظيم، أو يمن بقات وبدون اقتصاد.
* "طالب في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة"